الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)
.دخول قلعة البيرة في ايالة صلاح الدين وغزوه الإفرنج وفتح بعض حصونهم مثل الشقيف والغرر وبيروت. كانت قلعة البيرة من قلاع العراق لشهاب الدين بن ارتق وهو ابن عم قطب الدين أبي الغازي بن ارتق صاحب ماردين وكان في طاعة نور الدين محمود بن زنكي صاحب الشام ثم مات وملك البيرة بعده ابنه ومات نور الدين فصار إلى طاعة عز الدين مسعود صاحب الموصل ثم وقع بين صاحب ماردين وصاحب الموصل من المخالصة والاتفاق ما وقع وطلب من عز الدين أن يأذن له في أخذ البيرة فأذن له فسار قطب الدين في عسكره إلى قلعة شميشاط وأقام بها وبعث العسكر إلى البيرة وحاصروها وبعث صاحبها يستنجد صلاح الدين ويكون له كما كان أبوه لنور الدين فشفع صلاح الدين إلى قطب الدين صاحب ماردين ولم يشفعه وشغل عنه بأمر الإفرنج ورحلت عساكر قطب الدين عنها فرجع صاحبها إلى صلاح الدين وأعطاه طاعته وعاد في ايالته ثم خرج صلاح الدين من مصر في محرم سنة ثمان وسبعين قصدا الشام ومر بايلة وجمع الإفرنج لاعتراضه فبعث أثقاله مع أخيه تاج الملوك إلى دمشق ومال على بلادهم فاكتسح نواحي الكرك والشويك وعاد إلى دمشق منتصف صفر وكان الإفرنج لما اجتمعوا على الكرك دخلوا بلادهم من نواحي الشام فخالفهم عز الدين فرخشاه نائب دمشق إليها واكتسح نواحيها وخرب قراها وأثخن فيهم قتلا وسبيا وفتح الشقيف من حصونهم عنوة وكان له نكاية في المسلمين فبعث إلى صلاح الدين بفتحه فسر بذلك ثم أراح صلاح الدين بدمشق أياما وسار في ربيع الأول من السنة وقصد طبرية وخيم بالاردن واجتمعت الإفرنج على طبرية فسير صلاح الدين فرخشاه ابن أخيه إلى بيسان فملكها عنوة واستباحها وأغار على الغور فأثخن فيها قتلا وسبيا وسار الإفرنج من طبرية إلى جبل كوكب وتقدم صلاح الدين إليهم بعساكره فتحصنوا بالجبل فأمر ابني أخيه تقي الدين عمر وعز الدين فرخشاه ابني شاهنشاه فقاتلوا الإفرنج قتالا شديدا ثم تحاجزوا وعاد صلاح الدين إلى دمشق ثم سار إلى بيروت فاكتسح نواحيها وكان قد استدعى الأسطول من مصر لحصارها فوافاه بها وحاصرها أيام ثم بلغه أن البحر قد قذف بدمياط مركبا للإفرنج فيه جماعة منهم جاؤا لزيارة القدس فالقتهم بدمياط وأسر منهم ألف وستمائة أسير ثم ارتحل عن بيروت إلى الجزيرة كما نذكره أن شاء الله تعالى..مسير صلاح الدين إلى الجزيرة واستيلاؤه علىحران والرها والرقة والخابور ونصيبين وسنجار وحصار الموصل. كان مظفر الدين كوكبري بن زين الدين كجك الذي كان أبوه نائب القلعة بالموصل مستوليا في دولة مودود وبنيه وانتقل آخرا إلى اربل ومات بها وأقطعه عز الدين صاحب الموصل ابنه مظفر الدين وكان هواه مع صلاح الدين ويؤمله ملكه بلاد الجزيرة فراسله وهو محاصر لبيروت وأطمعه في البلاد واستحثه للوصول فسار صلاح الدين عن بيروت موريا بحلب وقصد الفرات ولقيه مظفر الدين وساروا إلى البيرة وقد دخل طاعة عز الدين وكان عز الدين صاحب الموصل ومجاهد الدين لما بلغهما مسير صلاح الدين إلى الشام ظنوا أنه يريد حلب فساروا لمدافعته فلما عبر الفرات عادوا إلى الموصل وبعثوا حامية إلى الرها وكاتب صلاح الدين ملوك الأطراف بديار بكر وغيرها بالوعد والمغاربة ووعد نور الدين محمودا صاحب كيفا أنه يملكه آمد ووصل إليه فساروا إلى مدينة الرها فحاصروها وبها يومئذ الأمير فخر الدين بن مسعود الزعفراني واشتد عليه القتال فاستأمن إلى صلاح الدين وملكه المدينة وحاصر معه القلعة حتى سلمها النائب الذي بها على مال شرطه فأضافها صلاح الدين إلى مظفر الدين مع حران وساروا إلى الرقة وبها نائبها قطب الدين نيال بن حسان المنبجي ففارقها إلى الموصل وملكها صلاح الدين ثم سار إلى قرقيسيا وماسكين وعربان وهي بلاد الخابور فاستولى على جميعها وسار إلى نصيبين فملك المدينة لوقتها وحاصر القلعة أياما ثم ملكها وأقطعها للأمير أبي الهيجاء السمين ثم رحل عنها ونور الدين صاحب كيفا معه معتزما على قصد الموصل وجاءه الخبر بأن الإفرنج أغاروا على نواحي دمشق واكتسحوا قراها وأرادوا تخريب جامع داريا فتوعدهم نائب دمشق بتخريب بيعهم وكنائسهم فتركوه فلم يثن ذلك من عزمه وقصد الموصل وقد جمع صاحبها العساكر واستعد للحصار وخلى نائبه في الاستعداد وبعث إلى سنجار واربل وجزيرة ابن عمر فشحنها بالامداد من الرجال والسلاح والأموال وأنزل صاحب الدار عساكره بقربها وتقدم هو ومظفر الدين وابن شيركوه فهالهم استعداد صاحب البلد وأيقنوا بامتناعه وعذل صاحبيه هذين فانهما كانا أشارا بالبداءة بالموصل ثم أصبح صلاح الدين من الغد في عسكره ونزل عليه أول رجب على باب كندة وأنزل صاحب الحصن باب الجسر وأخاه تاج الملوك بالباب العمادي وقاتلهم فلم يظفر وخرج بعض الرجال فنالوا منه ونصب منجنيقا فنصبوا عليه من البلد تسعة ثم خرجوا إليه من البلد فأخذوه بعد قتال كثير وخشي صلاح الدين من البيات فتأخر لأنه رآهم في بعض الليالي يخرجون من باب الجسر يالمشاعل ويرجعون وكان صدر الدين شيخ الشيوخ ومشير الخادم قد وصلا من عند الخليفة الناصر في الصلح وترددت الرسل بينهم فطلب عز الدين من صلاح الدين رد ما أخذه من بلادهم فأجاب على أن يمكنوه من حلب فامتنع فرجع إلى ترك مظاهرة صاحبها فامتنع أيضا ثم وصلت أيضا رسل صاحب أذربيجان ورسل شاهرين صاحب خلاط في الصلح فلم يتم وسار أهل سنجار يعترضون من يقصده من عساكره وأصحابه فأفرج عن الموصل وسار إليها وبها شرف الدين أمير أميران هند وأخو عز الدين صاحب الموصل في عسكر وبعث إليه مجاهد الدين النائب بعسكر آخر مددا وحاصرها صلاح الدين وضيق عليها واستمال بعض أمراء الأكراد الذين بها من الزواوية فواعده من ناحيته وطرقه صلاح الدين فملكه البرج الذي في ناحيته فاستأمن أمير أميران وخرج وعسكره معه إلى الموصل وملك صلاح الدين سنجار وولى عليها سعد الدين بن معين الدين الذي كان أبوه كامل بن طغركين بدمشق وصارت سنجار من سائر البلاد التي ملكها من الجزيرة وسار صلاح الدين إلى نصيبين فشكا إليه أهلها من أبي الهيجاء السمين فعزله عنهم واستصحبه معه وسار إلى حران في ذي القعدة من سنة ثمان وسبعين وفرق عساكره ليستريحوا وأقام في خواصه وكبار أصحابه والله أعلم.
|